السبت، 16 يوليو 2011

رمضان بين العادة والعبادة (صيام العارفين)


صيـــام العــــارفــــين

 فالعارف بالله المحقق للعباده هو الذي عرف أن الصيام سرًّ بين العبد وربه 
لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات
التي يستخفي بتناولها في العادة ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، 
وقيل: إنه ليس فيه رياء،كذا قاله الإمام أحمد، حتى كان بعض الصالحين 
يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة. 
  
وقال بعضهم: لما اطلع على بعض سرائره: إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سراً ثم تمنى على نفسه بالموت فمات، فالمحبون يغارون من اطلاع الأغيار ( أي الغير ) على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه..
  
وبعض المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه بكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وذلك من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه فتصبر لأنه فيما يرضي مولاه وإن كان مخالفاً لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه وإن كان موافقاً، وإذا كان هذا فيما حرّم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرّم على الإطلاق كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض بغير حق وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل زمان ومكان، فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب، 
  
ولهذا جعل النبي من علامات وجود حلاوة إيمان: ( أن يكره أن يعود الى الكفر بعد أن أنقذة الله منه كما يكره أن يقذف في النار )، وقال يوسف عليه السلام: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، وسئل ذو النون المصري، متى أحب ربي؟ إذا كان ما يكرهه أمرّ عندك من الصبر...
  
وهذا المحب العارف لربه علم أن الصيام كسر للنفس فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة، فإذا انكسرت النفس تخلى القلب للفكر والذكر، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاء لقطعه شهوة النكاح. 
 
وخصلة أخرى من خصال هذا المحب المحقق لعبادة ربه في الصيام علمه بأنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرمه الله في كل حال، من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم عملاً بقوله : { من لم يدع قول الزور والعمل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه } [أخرجه البخاري]،
  
وهذا المحب أيضاً هو الذي استبشر بدخول الشهر لعلمه بما يجده من اللذه بصيامه ومن أنس في قيامه، فنهاره تسبيح وتهليل وتحميد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وصدقة وبر وإغاثة وإحسان، وليله لا يتهجع فيه إلا القليل تحسباً للهجوع الطويل كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18،17]، سرى المحب في مناجاة حبيبه ونجوم الليل تضيء مواطن سجوده، تدبر واعتبار واستغفار بالأسحار فهو على هذا الحال طوال أيام شهره ولياليه، بل إذا أدركته العشر الأواخر جدّ كما كان يجدّ رسول الله فيشد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله مستشعراً قوله صلى الّه عليه وسلم: { من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } مستحضراً قوله : { التمسوها في العشر الأواخر من رمضان } فإذا كانت صبيحة العيد تحققت له أولى الفرحتين ممزوجة بالحزن على فراق الحبيب الذي قضى في كنفه طوال أيام الشهر، فإذا دموعه تنهمر حين يصبح مفطراً حامداً لله على تمامه الصيام حزيناً على فراق رمضان...

فمن كانت هذه حاله فهنيئاً له وليبشر فإن هذا من علامة قبول العامل وعمله، والله رؤوف رحيم لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق